بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيّدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
الشيخ العارف بالله العلامة مبروك خلفي (1921م - 1989م)
[واحد من أعلام بلدة برج بن عزوز]
بـقَـلم الأستاذ الشاعر: أحمَد جَـلال البـرجي
عفواً أيُّـها الشَّيخُ الوقُور، ثُـم عفوا سيّدي أيُّـها العبْدُ الشَّـكُور، لستُ من صنفِ الجَحُود لستُ كالعبد الكفُور، غَـيرَ أنّـي لا أَفِـرُّ من ذُنــوبي لفـتُـوري...
وأقِـرُّ أنّني كنتُ سهوت، وبنفسي قد لهوت، عن كرامِ الأهلِ مَن غابوا بموت...
قـيّدَ النّـسيانُ فكرًا والبصيرة، حَـدّدَ الشُّـغلُ مَـسَـارًا والوتيرَة، وعزائِي أنَّـني أقفُوا المسيرَة، ظلّ قلبي مع نفسي في اجترار اللّومِ من ثِقلِ الجَـريرَة...
*.*.*
مولده ونشأته:
*كانتْ بلدتُـهُ (بـرج بن عزوز) مسقطَ رأسهِ مِن الأبويْن محمد بن المولود والخالديّة خلفي من نـفسِ الأسرة التي تعُودُ إلى عائِلة "غربالْ"من غـمْرة من أولاد عبد المومن والتي يـرجع أصلها إلى الأدارسة.
ولِـدَ الطّفلُ بصيرًا، ولسوءِ حظِّـه، ما اكتَـحَـلتْ عَـيْـنَـاهُ إلاّ بنُـورِ بَلدته وأسرته حيثُ أُصيبتَـا بمرضٍ أفقدهُـمَـا نعمَـةَ البصر في الشهر السادس من عمره، كما أنّه فقد والده في حداثة سنّـه، بيْد أنّ رعاية الأمِّ وحنوَّهَـا الغامر، عوّضه الشّيء الكَـثِير هوَ وإخوتِه وأخواته، وكانت امرأة صالحة، فطنةً، متديّنَة محبّةً للعلـمِ والقرآن الكريم فَـتقدّمتْ بولديْـها المبروك والصالح إلى الكتّـاب ليتعلّما مبادئ القراءة والكتابة وحفظ القرآن الكريم، كدأب أبناء وبنات بلدته.
شيوخه:
*كان الشّيخ الطالب لخضر بن عبد الرحـمن الذي وفد إلى البلدة من أولاد بـراهم بولاية برج بوعريريج حالياً (منطقة سطيف سابقا ) كان أوّل مَن تولّـى تحفيظَـهُ القرآن الكريم، وفتح الله عليه، وحـفظهُ في سنِّ السّادسة، وأعـاده في العاشــرة، ثم أخذ الفقه وعلم الفرائِض وشرح الرّحبيّة (منظومة في علم الفرائض) على يد الشيخ محمد بـن الحاج بجاوي البرجي، كما قد ساهم في تعليمِه كلٌّ من الشّيوخ: السعدي يخلف سيدي العياشي مزوز، والأخضر القاسمي بـن الرّبيع.
يومياته:
*كان شيخنا مبروك خلفي مولعاً بمجالسِ العلم والعلماء، فكان يُجالسُ الشّيخ الطّاهر شريــف، المــعروف بِـ سي الطّاهـر بن شريف الذي كان رحـمه اللهُ لغــويـّا، ضليعًــا في علوم القرآن وتحفيظه، متميّزا في الإفتاء، جادّ امتروّيا مـتـثـبّـتاً صارماً، كما كان يجلس إلى جانب الشّيخ عبد الحفيظ جلاّب، والمولود بن حميدة حضري، يتناولون أطراف الحديث في أمور الدّين والدّنيا، وقد أنعم اللّه عليه بحدّة البصيرة وقوّة الذّاكرة، فيستـمع بكلّ اهتمام، فيلتقط المعلومةَ ويُقوّم خطأها، ويقدّم الصّواب بأُسلوب شيّق واضح مفهوم.
كانت الإذاعـةُ المسموعـةُ أهمّ الوسائط المتاحة لهُ في عـصره وبيئتـه، فكان يُـتابـعُ من خلالها برنامج الشّيخ عبد الرّحمن الجيلالي (رأي الدّين) الذي كان يُبثُّ من خلال الإذاعة الوطنـيّة المسموعـة، وكان يُـتابـع نشرات الأخبار الوطنيـّة والعربيـّة والدّولـيّة مِن مختلف الإذاعات، خاصّةً الإذاعـة البريطانيّة (هنا لندن).
عُرف الشّيخ مبروك بتواضعه الكبير، يُجالس كلّ فئات المـجتـمع، يُـفـتي وينصح يُـنبّه السّاهي، يُذكّرُ النّاسي، يعظُ العاصي، ويُرشد الضّال، - كان وحيدَ بـلـدته المقصودَ في عقد القران، والإفتاء وتـقسيم التّركات، حتّى قال عنه أحد العارفين مخاطباً أهل البلدة قائلاً: "لو يغيب عنكم سي المبروك يُصيـبُكم العمى".
*لقد ربّـى الشّيخُ أجيالاً وعلّـمَ، وحفَّظَ بدءًا بأخيه الصالح الذي أصبَحَ مساعدهُ الأوّل فـي الزاوية (الكتّاب) المعروفة بزاوية بن الوافي المفتوحة لكل أبناء وبنات البلدة كما كانت تساعده مجموعة من معلّمي القران منهم: الشّيخ عبد الله رحمه، والشّيخ علي حرابي والشّيخ الأخذاري قويدر، وبعض من كبار الطّلبة الحافظين من كتاب الله، وكان الشّيخُ بينهم كالبدر، وهم النّجوم، يستـمدّون منه الضّياء داخل قلعتهم وخارِجها يستشيرونه في مسائل الكتاب والسنّة والفقه والميراث، ولـمّا تقادم مبنى الزاوية زاوية بن الوافي أو "بن اللافي"وهو الاسم المشهور بين أهالي البلدة، وتهاوت بعض أركانه، انتقل هو وطقمه إلى الزاوية المجاورة التي بنـاها أحد المحسنين المسمّـى عبد القادر دودان، وذلك لتحفيظ القرآن الكريم، وظَـلَّ هذا الخـيِّــرُ بتكفَّلُ بدفع رواتب معلميها مدة طويلة حتى زمنٍ قريب.
طريقته ومنهجه التعليمي:
*ظَـلّت الزاوية غاصّة بالبنين والبنات كبارًا وصغَـارً، غير أنّ لكل فئة جانبها الخاص يتنافسون في الحفظ مثْـنى وثُلاث ورباعَ، وكان للدورة التّحفيظيّة مراحلها فترة للحفظ، وثانية للاستظهار، وثالثة للمحو، ورابعة للكتابة، وخامسة للتّكرار، كلُّ ذلك في نظام وانسجام، وإذا أخـلَّ أحد بنظام هذا المجال الحيويّ الروحانيّ، يعرّض نفسهُ للّوم ويقع تحت طائلة التّأديب، وكان لشيخنا طريقته في التّأديب، فلا تصاحبه عصا طويلة، ولا يرفـع قدمي أحد لتطبيق أسلوب "الفَلاقَة"، فطريقته العمليّة العلميّة تـربويّة نظيفة، حيثُ كان يُمسك بـرأْس الطّفل المراد تأديبه، بيديه الاثنتين ويسحبه إلى صدره برفق ذلك ليحفظ الرأس وما يوعى، والوجه وما حوى، ثُم يَـمُدُّ كفّيْه إلى ظهر الطفل بضربٍ خفيف وكأنه المسح مصحوبًا بعبارات اللّوم والتّـأنيب دون تعنيف ولا تجريح، وبهذه الطريقة وهذا الأسلوب، كان الإقبال عليه وعلى زاويته كبيرًا برغبة ومحبّة وبهذه الثقة الخالصة التي غاصت جذورها في ثرى المحبّة والأمل، امتدت بـراعم عطائها وأثمرتْ.
تلاميذه:
من الأسماء التي بقيت عالقة بذاكرتنا من تلاميذ الشيخ، الذين مروا من تلك الزاويـة في تلك الحقبة، والذين لاشكّ لهم ذكـرياتـهم بها: أ.د/ محمد قـويــدري ابن الطاهر، والدكتور كمال عجالي، والدكتور محمد نجيب جلاب وكلّما نبشت ذاكرتي واستثـرتها وجدت جُلّ مَن كان يـرتادها استقر في وظيفة مرموقة ومنصب محترم، والكثير منهم أساتذة ومعلمون، لذلك كلما تذكّرنا مَن عاش أجواء هذه الزاوية ومثيلاتها ونهل من معينها إلاّ وجدناه قائدًا لا مقوّدًا، معلما، أستاذا، إمامًا، قاضيا، مجاهدا، فلّاحا صالحا، عاملا مُتقناً، صانـعــاً مخلصا ، عدا مَن لمْ يخلص لمخلصيها...
هكذا كانت الزاويةُ والكـتّابُ والمدرسةُ، وكان المعهدُ والجامعة، جاهــدةً موفّـقـةً في صنـعِ الفردِ الصّالح، وهكذا كان رجالها مخلصين موفّقين في بناء المجتمع الصّالح.
وفاته:
ويرحل الشّيخ حين تخطَّفَه الموت، وتغربُ به سنة 1989فجأةً، وقد أدّى واجباً وزيادة، ولم يأْخذ بعض ما يستحقّ، ويغيب تاركاً فراغاً كبيراً كان يملـؤُه.
ما قيل فيه:
-قال عنه علي حرابي وهو أحد شيوخ البلدة ومجالسيه: "لقد انطفأ مصباح بـرج بـن عزوز"
-وقال عنه الشّيخ خالد رحمه، رحمه الله تعالى، وكان أحدَ جُلسائه والعارفين به: "لم تعد للحياة قيمةٌ بعد وفاة الطّالب سي المبروك ".
-وقال عنه الشّيخ العلاّمة عبد المجيد حبّه رحمه اللّه: "إنّ الشّيخ مبروك خلفي عالمٌ بحق ولكنّه مغبون"، وقال أيضاً: "لا يمكن أن أفتي لأهل الزّاب وفيهم الشّيخ الجليل مبروك خلفي".
*.*.*